هدنة على الورق وأصوات السلاح في الشوارع.. أزمة حقوقية تتفاقم في طرابلس

هدنة على الورق وأصوات السلاح في الشوارع.. أزمة حقوقية تتفاقم في طرابلس
ليبيا

على وقع تحذيرات محلية ودولية، تتجه الأنظار مجددا إلى العاصمة الليبية طرابلس حيث تلوح بوادر انهيار الهدنة التي أرستها تفاهمات اللجنة العسكرية المشتركة خمسة زائد خمسة في جنيف عام 2020. 

اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا حمّلت في بيان لها، الأربعاء، حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة ورئيسها، بصفته وزيرا للدفاع، المسؤولية الكاملة عن أي خرق لترتيبات وقف إطلاق النار، ودعت إلى تفعيل عقوبات مجلس الأمن بحق من يهدد السلم والأمن في البلاد. 

هذا الاتهام المباشر يفتح النقاش حول منطق القيادة والسيطرة على التشكيلات المسلحة في طرابلس، وحدود الالتزام بالهدنة في مشهد أمني متشظ ومرشح للاشتعال عند كل احتكاك مسلح. 

ثبّت اتفاق جنيف في الثالث والعشرين من أكتوبر 2020 مبدأ وقف إطلاق النار الدائم وانسحاب المقاتلين الأجانب وعودة الوحدات العسكرية إلى معسكراتها خلال ثلاثة أشهر، ورحبت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي بالاتفاق، لكنه بقي رهينا بآليات تنفيذ متعثرة وقدرة محدودة على ضبط الفصائل المنتشرة في الغرب والشرق، ومع أن مجلس الأمن أقر لاحقا آلية أممية لمراقبة الهدنة، فإن التطبيق العملي ظل جزئيا، بينما ظلت طرابلس تشهد دوريا اشتباكات بين مجموعات نافذة تقوّض الثقة العامة في أي مسار تهدئة.

ميدانٌ مضطربٌ وحقوقٌ منسية

تؤكد بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا أن أي تصعيد في العاصمة يعرض المدنيين للخطر ويهدد الهشاشة الأمنية، كما وثّقت منظمات حقوقية تفجر مواجهات خلال الأشهر الماضية في أحياء من طرابلس على خلفيات تتصل بنفوذ الجماعات المسلحة ومصالحها الاقتصادية، بما في ذلك صدامات عقب مقتل قادة ميدانيين بارزين، هذه الاشتباكات المتقطعة، وإن كانت قصيرة، خلفت قتلى وقيّدت حركة السكان وأعاقت وصول الخدمات الأساسية. 

مسؤولية القيادة السياسية والأمنية

تضع تصريحات اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا مرآة أمام الحكومة في طرابلس، فالمساءلة عن خروق الهدنة لا تتوقف عند مطلقي النار، بل تمتد إلى من يمسك بقرار السلم والحرب ويملك أو يفترض أن يملك أدوات الضبط والتفكيك وإعادة الهيكلة، ومن زاوية القانون الدولي، يرقى أي هجوم متعمد على المدنيين أو مرافقهم إلى جريمة حرب تستوجب التحقيق والملاحقة، سواء أمام القضاء الوطني أو بموجب الولاية المفتوحة للمحكمة الجنائية الدولية على الحالة الليبية منذ إحالة مجلس الأمن عام 2011، مع تسجيل قبول ليبي حديث باختصاص المحكمة لجرائم لاحقة. 

ثمن إنساني باهظ

تتجاوز تداعيات الاشتباكات حدود الخسائر المباشرة لتطال سلاسل التزويد والأسعار وحركة المرافق الصحية والتعليمية. ويشير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية إلى أن نحو ثلاثة ملايين وثلاثمئة ألف شخص في ليبيا يحتاجون إلى المساعدة هذا العام، فيما تعرقل القيود على عمل المنظمات الإنسانية الوصول المنتظم والدائم إلى الفئات الأشد هشاشة، ومما يزيد الصورة قتامة قرار السلطات في أبريل الماضي تعليق عمل عشر منظمات إغاثية دولية، وهو إجراء حذّرت وكالات إنسانية وخبراء من أنه سيؤدي إلى فجوات كبيرة في خدمات الإيواء والرعاية الصحية لآلاف المهاجرين والنازحين وسكان الأحياء الفقيرة. 

اقتصاد نزاع ومجتمع مرهق

تعيد كل جولة قتال إنتاج دائرة الخوف حول الاستثمارات المحلية الصغيرة وقطاع الخدمات، وتدفع شركات محلية وأجنبية إلى تجميد خططها، ويزيد ذلك من هشاشة سوق العمل في العاصمة التي تضم كتلة شبابية كبيرة تبحث عن فرص محدودة، كما يقوّض ثقة الجمهور في مؤسسات الدولة وقدرتها على حماية الملكيات الخاصة وفض النزاعات، وفي ظل ارتفاع تكاليف المعيشة وتكرار انقطاعات الخدمات، تتسع الفجوة بين توقعات السكان وخيارات صناع القرار.

المهاجرون بين مطرقة الحصار وسندان الانتهاكات

طرابلس محور في مسارات الهجرة، ما يجعل أي توتر أمني مضاعِفا للمعاناة؛ تقارير حقوقية وإعلامية حديثة وثّقت عمليات طرد جماعي لمهاجرين عبر الصحراء، وتقييدا لعمل المنظمات التي تقدم خدمات أساسية لهم، الأمر الذي ينذر بارتفاع المخاطر الصحية والأمنية على عشرات الآلاف من الأشخاص المارين أو العالقين في ليبيا، وفي ظل تعليق نشاط منظمات تقدم الرعاية الطبية والمأوى، تبدو قدرة المجتمع المدني المحلي محدودة على سد الفجوة. 

قانون دولي واضح وعتبات للمحاسبة

ينص القانون الدولي الإنساني على حماية المدنيين وعدم استهداف المستشفيات وشبكات الكهرباء والمياه، كما تمنح قرارات مجلس الأمن، ولا سيما القرار 2174 لعام 2014 والقرار 2259 لعام 2015، أدوات عقابية تشمل حظر السفر وتجميد الأصول ضد كل من يخطط أو يدعم أعمالا تهدد السلم أو يقوض العملية السياسية، ولهذه الأدوات وظيفة ردعية إذا اقترنت بإرادة سياسية داخلية ودولية لتحديد المسؤوليات وتبادل المعلومات ووضع قوائم استهداف دقيقة. 

مطالب المنظمات الحقوقية

تطالب منظمات -مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية وبعثة الأمم المتحدة- بوقف فوري لأي تصعيد في ليبيا وفتح تحقيقات شفافة في استخدام القوة داخل المناطق المأهولة، ونشر نتائجها، وتعويض الضحايا، وإصلاح القطاع الأمني بما يشمل دمج القوى النظامية القابلة للمساءلة وتفكيك التشكيلات غير الخاضعة للقيادة الموحدة، كما تشدد على ضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق ورفع القيود عن المنظمات المعتمدة، وتفعيل آليات الشكاوى وحماية الشهود، وتعزو هذه الجهات تفاقم الانتهاكات إلى مزيج من الانقسام المؤسسي وإفلات واسع من العقاب وتأخر المسار الدستوري والانتخابي. 

مفاتيح الخروج من الأزمة

توصي المنظمات الحقوقية بعدة مقترحات؛ أولا، ضبط السلاح عبر تنفيذ حرفي لبنود اتفاق وقف إطلاق النار، بما فيها إخراج المقاتلين الأجانب وجدولة واقعية لعودة الوحدات إلى معسكراتها، مع إسناد أممي ولوجستي لمراقبة الهدنة ونشر تقارير دورية علنية عن الامتثال، ثانيا، تسريع مسار القواعد الدستورية والانتخابية بوساطة أممية تقرب بين مؤسسات الشرق والغرب، بما يحد من دوافع التنافس المسلح على النفوذ في العاصمة، ثالثا، ربط الدعم الدولي بتقدم قابل للقياس في إصلاح القطاع الأمني والعدالة الجنائية، بما يشمل تدريب قوة شرطة قضائية تحمي التحقيقات، ورابعا، حماية الفضاء الإنساني والمدني عبر رفع القيود عن المنظمات، وتيسير وصولها إلى الأحياء المتضررة، وإطلاق برامج تعويض وترميم للمحال والمساكن المتضررة. هذه الخطوات ليست وصفة سريعة، لكنها تشكل مسارا تراكميا يخفض مخاطر الانفجار ويحفظ ما تبقى من ثقة المجتمع. 

دلالات المسؤولية السياسية

إصرار اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان على تسمية المسؤوليات في طرابلس ينسجم مع مسعى أوسع لوقف حلقة الإنكار وتبادل الاتهامات، فالتعهدات الرسمية لا تُختبر في البيانات، بل في قدرة المؤسسات على منع التحشيد والاشتباك، وحماية المدنيين، وتمكين القضاء من الوصول إلى مسرح الأحداث بلا إعاقة، كما أن تفعيل مسارات العقوبات الأممية قد يشكل إشارة واضحة إلى أن خرق الهدنة لن يمر بلا كلفة، وأن القانون الدولي لن يبقى أسير النصوص. 

تشكل اتفاقات جنيف عام 2020 الإطار المرجعي لوقف النار في ليبيا بعد أعوام من المواجهات بين القوات الموالية لحكومة طرابلس وقوات الجيش الوطني بقيادة خليفة حفتر، ونص الاتفاق على وقف دائم للأعمال العدائية وعودة الوحدات إلى معسكراتها وإخراج المقاتلين الأجانب، إلى جانب إنشاء آلية للمراقبة، وفي 2021 أقر مجلس الأمن دعما أمميا لهذه الآلية، كما دعا القرار 2570 إلى مسار انتخابي انتهى إلى التعثر في ديسمبر من العام ذاته وبقيت البلاد في حالة انقسام مؤسسي، منذ ذلك الحين تتوالى نوبات عنف قصيرة لكنها دامية في العاصمة، بينما تشير تقديرات أممية إلى احتياج ملايين السكان إلى المساعدة، وسط قيود على عمل المنظمات الإنسانية وتحديات هيكلية تتعلق بالاقتصاد والأمن والخدمات، وعلى المستوى القضائي الدولي، تخضع ليبيا لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية منذ إحالة مجلس الأمن عام 2011، مع تسجيل قبول ليبي إضافي باختصاص المحكمة للفترة اللاحقة، ما يفتح نظريا مسارا تحقيقيا لمساءلة مرتكبي الجرائم الجسيمة. 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية